الأربعاء، 17 فبراير 2010

قبل أن يلتفت أحد

الوقتُ يختبئ بين ثقوب النهار
والمدى الواقف كصورة على بطاقة البريد
أنتَ وهي تقفان أيضا
في دائرة الزمن الكئيب
تبتسمان لأنكما معا
الأعشاب الطويلة تنتفض كموج البحر
لا أحد يدري إن كانت مبتهجة
أم قلقة..
الغراب على قوس الباب
ينظر بمكر.

الاثنين، 15 فبراير 2010

حافة الظلمة

لم أر ماء الليل
يسيل على النوافذ
لكنني سمعت نقرا متقطعا
وكأنها الريح تهمس للزجاج
القمر ألقى ثيابه على الحقل
تاركا ظلالا غير مفسرة ناحيتنا
انهالت العتمة وأكلت الضوء
من عيوننا
أفقنا وما زالت العتمة تكز
على أصابعنا
لم يظهر أثر للصباح
الغمامة جاثمة على الغرفة
والمصابيح بعيدة
أمد يدي لتفريق الظلمة
وأدرك أن
الستارة كانت مسدلة طيلة ذلك الوقت

الأحد، 14 فبراير 2010

الصّباحُ يَبدأُ بلَونِ الغُبارِ


في هذهِ المدينةِ
الأيّامُ تَتَطوَّحُ في الأَزِقّةِ
مثلَ الجِراءِ المُتعبةِ،
الغُبارُ يملأُ أفْواهَنا،
والشّمسُ لم تَعُدْ تُرى
كما يجبُ لها أنْ تفعلَ..
نحنُ أحياءٌ..
أظنُّنا نسيرُ في الأيّامِ
ونكتُبُ لنَتَأكّدَ أنَّنا
هُناكَ قُبالةَ الشّمسِ
التي لم تَعُدْ تُرى..
الصّباحُ يَلْمَسُنا بضَوئِهِ
كمُسافرٍ يَنظُرُ إلى العالَمِ منْ
نافذةِ مَقْصورتِهِ
إنّهُ هناكَ في الأعلى
ونحنُ هُنا
بالْكادِ يُمكِنُهُ أن يرانا.
** ** **

الأربعاء، 10 فبراير 2010

لن أخونَ أحلامي

ندوة "الخطاب البصري في التجربةِ الشّعريةِ والسينمائية "
تنظيم/ دائرة الثقافة والإعلام بعجمان
10 فبراير 2010


حالةُ تأمُّلٍ بقلم "نجوم الغانم"

"نترُكُ خُطُواتِنا على الرَّملِ،
على الثّلجِ،
على الماءِ....
يا إلهيْ كيف أنّنا لم ننتبِهْ أينَ تركْنا أقدامَنا"
** ** ** **
أستيقِظُ في صباحِ أحدِ الأيّامِ لأجِدَ نفسيْ في بهْجةٍ ما.. لا أعرِفُ شيْئاً عنِ التّقْويمِ، ولا الدَّورةِ القمَريّةِ، أكونُ قد نسِيْتُ المُتَعلَّقاتِ المَنطِقيّةَ لحِساباتِ الفُصولِ، وتذكّرْتُ أمراً واحداً؛ هو الشُّعورُ المُسجّلُ في مكانٍ ما في الذّاكِرةِ، عنْ ذلكَ الإحساسِ بالذّاتِ، رُبّما الرّائِحةُ، ربّما درجةُ حرارةِ الجَوِّ، ربّما درجةُ زُرْقةِ السّماءِ، ربّما طريقةُ عُبورِ هَبَّةِ الهواءِ مِنْ شَقِّ النّافِذةِ، إنّهُ الإحْساسُ نفسُهُ الذي يتكرّرُ مرّةً واحدةً في السّنةِ بمجيْء فصلِ الرّبيعِ..
أنتَبِهُ أنّ الرّبيعَ جاءَ باكِراً، وأوّلُ إِحساسٍ ينْتابُنيْ هوَ الرّغْبةُ العارمةُ في الكِتابةِ .. أو رُبما الجُلوسُ على مقْهى على قارِعةِ الطّريقِ؛ لشُرْبِ كوبِ قهوةٍ ساخنٍ، ومُراقَبةِ اهْتزازِ الأشجارِ، أو تَخيُّلِ الجسدِ يرْتفِعُ خارجَ قانونِ الجاذبيّةِ الأرضيّةِ، ويَظهرُ في مكانٍ ما كفِعْلٍ "يوغَويٍّ" * خارقٍ للطّبيعةِ .. بل لِنقـُلْ: إنها الرّغبةُ الأكثرُ إِلحاحاً مِن أيِّ شيءٍ آخرَ .. الكِتابةُ وحَسْبْ.
أنتبِهُ مُجدَّداً لهذا الإِحساسِ، وأتساءلُ: لماذا يحدُثُ الأمرُ بهذا الشّكلِ؟
ثَمّةَ حاسّةٌ غريزيّةٌ تجْعلُنا نعرِفُ مِن مُجرَّدِ اسْتنشاقِ رائِحةِ الهواءِ؛ إن كانَ وهو يعبُرُ إلينا، قد مرَّ بحقْلٍ للزّنبَقِ، أو آبارٍ نِفْطيّةٍ، أو بمزرعةٍ يتِمُّ فيها حرْقُ المخلَّفاتِ الزِّراعيّةِ.. ثمّةَ عَمليّةُ برْمجةٍ تحدُثُ لنا، تجعلُنا نحتفِظُ بصورةٍ بعيْنِها عنِ الشّيءِ، أوِ التّجْرِبةِ الحِسِّيّةِ التي نعيشُها، أوِ التي ساهمْنا نحن بأنفُسِنا في صِياغتِها وحِفظِها في أدْراجِ الذّاكرةِ.. إنّنا نُنشِئُ مجموعةً منَ العَلاقاتِ، ونحرِصُ على تخزينِها في لاوعْيِنا؛ لإعادَةِ اسْتدعائِها فيما بعدُ كذَرائعَ لنا، وأحياناً نُوقِفُ عمليّةَ الإبداعِ عليها..


رائِحةُ احْتراقِ الأغصانِ الجافّةِ في الحُقولِ هي حالةٌ، وليستْ فقطْ تجرِبةً معَ الحَواسِّ، حتى وإنْ كانتِ الحواسُّ قد لعِبتْ دَوراً أساسِيّاً في بلْورَتها .. وهيَ جُزءٌ مِن نشاطٍ يومِيٍّ عاديٍّ في المناطِقِ التي تنْتشِرُ فيها البساتينُ والمزارعُ، أمّا ردّةُ فعلِنا تُجاهَها فهيَ ليستْ عاديّةً تماماً..
بالنِّسبةِ إلينا؛ فإنّ الحالةَ تتَحوّلُ خارجَ إِِطارِها الاعْتياديِّ، حينَ تدخُلُ ضِمنَ الذّاكرةِ الشّخصيّةِ الدّالّةِ على مكانٍ أو حدَثٍ ما، مُرْتبطٍ بمرحلةٍ ما مِن حياتِنا، وتُصبِحُ ذاتَ أهميّةٍ أكبرَ حينَ يزدادُ الإلحاحُ الدّاخليُّ بالرّغبةِ في التّعبيرِ عنها، أو عن ذلكَ التّغيُّرِ الذي يطرَأُ علينا حينَ نتعرَّضُ لتجْرِبةٍ مُشابهةٍ، ويكونُ على شكلِ ردّةِ فِعلٍ فيزيائيّةٍ/عُضْويّةٍ، أو نفسيّةٍ، أو ذِهُنيّةٍ. يُصبحُ للأشياءِ وَقْعٌ فيه الكثيرُ منَ الخُصوصيّةِ والسّرِّيةِ والتّواطُؤِ.. الهواءُ ليس هواءً، واللَّونُ ليسَ كذلكَ دائِماً.. الرّائِحةُ لها هَيئةٌ، وأحْياناً كَيانٌ قائمٌ بذاتِهِ ، نرى أنفُسَنا مُستغْرقينَ في شخْصَنةِ الرّائِحةِ، ودرجةِ الحرارةِ والأصواتِ، وملْمَسِ الأشياءِ ووقْعِها علينا، دونَ أن يكونَ ذلكَ مُتعَمَّداً، وننْتهيْ في نهايةِ المَطافِ بالرّسْم ..
نحنُ في حالةِ رسْمٍ دائِمٍ للمشاعِرِ والأشياءِ ، رسمٍ بالكلِماتِ أوْ بالفُرْشاةِ أو بالكامِيرا.. في حالةِ هَدْمٍ وبناءٍ وتعديلٍ لواقعٍ افْتراضِيٍّ نراهُ وحدَنا.. نهبِطُ إلى مَمالكِنا الشّبيهةِ ببُيوتِ النّمْلِ، أو نَعومُ مثلَ القُندُسِ الذي يختارُ مِياهَ الأنهارِ، لبِناءِ سُدودٍ وأعْشاشٍ، لا يعرِفُ هو نفسُهُ إنْ كانتْ ستَخدِمُ أحداً غيرَهُ، أو إنْ كانَ لما يفعلُهٌ تأثيرٌ بعيْنِهِ على الطّبيعةِ، أو هِجرَةِ الأسْماكِ أو حرَكةِ المِلاحةِ.. لكنّهُ يستيقِظُ ويجْمعُ الأغصانَ ويَعومُ، ويبنيْ ويخرُجُ ويسْتيقِظُ، وهَكذا.. يفعلُ ذلكَ كجُزءٍ مِنْ وُجودِهِ، أو لِتسْليةِ نفسِهِ، أو لرُبما هي حالَةُ صلاةٍ، وفِعلٌ رُوحانيٌّ يفوقُ الوَعيَ السّطْحيَّ الذي يُريدُ أنْ يرى نتيجةً مَنْطِقيّةً تُرضي الفُضولَ العاديَّ .. رُبما يكونُ هُناكَ مُبرّرٌ عِلميٌّ آخرُ ، لا يَهُمُّ ، المُهِمُّ هو هذهِ الحرَكَةُ الدّؤُوبةُ لفِعلِ شيْءٍ..
أحْياناً أظُنُّ أنَّ ثَمّةَ فراغاً في الدِّماغِ _ رُبما يكونُ كبيراً ، رُبما يكونُ صغيراً، رُبما يكونُ مُتَوهـَّماً _ هو الذي يجعلُكَ في مأْزِقٍ مُتواصلٍ معَ هذا الفِعلِ الذي عليكَ الاستمرارُ فيهِ، وهو تَصنيعُ رُسوماتٍ مُتَتابِعةٍ، أو مُلاحَقـَةُ حالاتٍ كأنها تحدُثُ في فيلمٍ سينَمائيٍّ ، الفيلمُ السّينمائيُّ يعملُ بشكْلٍ مُتّصلٍ ، هنا في الرّأسِ، وهنا بينَ الأصابِعِ .. تحتاجُ أنْ تصِفَ الغريبَ الذي هزَّ كَتِفَكَ ليقولَ لك شيئاً بلُغَةٍ لم تفهمْها، وتركَكَ حين رآكَ أنتَ نفسَكَ غريباً عنِ المكانِ، وتتَحوّلَ أنت ذاتُكَ إلى إِشكالٍ على ذاتِكَ..
.... أنت تُريدُ أنْ تفتحَ فمَكَ لتَتكلّمَ، وتجِدُ في حَنْجَرَتِكَ جمرةً بدلاً منَ اللُّغةِ ، تظَلُّ فاتحاً فمَكَ للتّخفيفِ مِن حدَّةِ الألمِ وقَتامَتِهِ .....
..... وعندَما رأيْتَ تلكَ المرأةَ في الزُّقاقِ المُجاوِرِ لبيتِكَ ، هل تتذكّرُها في ذلك اليومِ الذي كانَِتِ السّماءُ تُمطِرُ فيه، حينَ كُنْتَ مجنوناً بحُزنِكَ؛ حين كان يَستبِّدُ بكَ الارْتباكُ؟ أو هل هي الحَيْرةُ؟ هل هو القلَقُ؟ أو فَوضى المشاعرِ، أوِ الكُرهُ للّحظةِ التي كنْتَ فيها ؟ هل هو السّكونُ الذي كنْتَ بأَمَسِّ الحاجةِ إليْهِ.. أنتَ ، هو ، هي ، أنا ، نحن ، هم ، تِلكَ الحالةُ التي لم تكنْ حتى لتسْتطيعَ أنْ تـُسمّيَها!
هذهِ الحالةُ التي لا شكَّ أنَّ لها تاريخاً في تجْرِبةِ كلِّ مُبدعٍ – أُسمّيها للتّسْهيلِ على نفسي حالةَ الشّفافِيةِ- تنتابُنا لأنّنا نَسمحُ لها بأن تقتَرِبَ مِنّا؛ لتَمنحَنا رُوحَها وإِمكانيّاتِها وسِحرَها؛ لِنُكمِلَ الصّورةَ التي بدأَتْ في مكانٍ ما في ذاكِرتِنا.. قد تكونُ لوَهْلةٍ شبيهةً بالحالةِ الهُلاميّةِ، التي لا اسْمَ لها ولا شكلاً، لكنّ هذا الشيءَ الذي نجتَهِدُ لمَنْحِهِ الحياةَ، هو أيضاً يجتهِدُ معَنا، ويبدأُ في التّشَكُّلِ حين يكونُ علينا صِياغتُهُ بأُسلوبٍ أو بآخَرَ، لا لشيْءٍ بل لنفهمَهُ، أو لنُلقيَهُ عنْ كاهِلِنا لنَستريحَ.. نحنُ نختنِقُ بمَشاعرِنا حينَ تضْطَرِمُ، ونشقى بسببِ ذِكرياتِنا، وعزاؤُنا أنّنا نمتلِكُ الوسيلةَ للتّعبيرِ عنها.. لدينا عُيونٌ لترى، وعيونٌ لتَرسُمَ وتـُصوِّرَ..
لقد كانَ الأمرُ بالنِّسبةِ إليَّ في مرحلةِ البِداياتِ بهذا الاخْتِلاطِ بالضّبطِ، خاصّةً حين تتَعلَّقُ المسألةُ بالحديثِ عنِ البَصريِّ، في التّجْرِبةِ الشِّعريّةِ والسّينمائِيّةِ التي أنتميْ إليها.. حالةَ الفراغِ أو الثُّقبِ الموجودِ في مكانٍ ما في الدِّماغِ أوِ وَعْي اليقظة ، سأُسمّيهِ أيضاً المسرحَ الحقيقيَّ للمُتَخيَّل..
بدأَ الالْتِباسُ مُنذُ زمنٍ طويلٍ.. كان الأمرُ في أُولى التّجارِبِ السّينمائِيّةِ التّجْريبيّةِ التي ارْتكبْتُها أيامَ الدِّراسةِ وقبلَها .. هو مُحاوَلةَ خلْقِ قصائدَ أُخرى باسْتِخدامِ الكامِيرا.. كُنْتُ مأخوذةً بالمُجرَّداتِ، ولكنْ جاءَ المُعلِّمُ وقال: لا أُريدُ تجريباً الآنَ، تسْتطيعونَ أنْ تفعلوا ذلكَ بعدَ نيلِ الشّهادةِ، حين لا يكونُ عليّ أن أرى ما تفعَلونَهُ، أمّا الآنَ فنُريدُ أن نختارَ مَوضوعاتٍ تَستقيْ جُذورَها مِنَ الإنسانيِّ المُتعارَفِ عليهِ.. وكانَ في هذا ألَمٌ حقيقيٌّ حينَها، ألمٌ يُشْبِهُ الجـُرحَ العاطِفيَّ.. وقد بدأَ نوعٌ منَ التّرويضِ لنا جميعاً كَطَلبةٍ نذهبُ للتّخَصُّصِ المُركَّزِ.. وكُنّا نتساءلُ: ما هذا الظُّلمُ؟!.. لماذا علينا أنْ نكونَ واقعِيِّينَ بهذه الصّورةِ الفَجّةِ؟!.. كانتْ هذهِ الأفْكارُ –أفكارُنا- في الحقيقةِ هي المَوسومةَ بالفَجاجةِ كُلِّها وللأسَفِ..
اليومَ أقولُ: شُكراً لذلكَ المُعلِّمِ الذي ساهمَ في تعليمي؛ كيفَ أنظُرُ للعاديِّ واليوميِّ والبسيطِ والعابِرِ والمُهمَلِ، وكيف علّمنيْ أنْ أُصْغيَ إلى صوتِ العُشْبِ. وكيفَ أيضاً جعلَنيْ أُفكّرُ مَلِيّاً في كيْفيّةِ تصْويرِ الإحساسِ بوُجودِ جمْرةٍ في الحَنْجَرَةِ بدون صرخة... إنها قصيدةٌ حقيقيّةٌ وعميقةٌ ، رَغْمَ مَظهرِها العاديِّ جِدّاً.
لقد كانَ هذا بِلا شكٍّ في مَصْلحةِ الجانِبِ الشِّعْريِّ أيضاً، والذي كان ينْمو هوَ الآخَرُ جَنْباً إلى جنْبٍ معَ المَعْرفةِ السِّينمائِيّةِ.. وقد ظهرَ تأثيرُ هذا التّدريبِ الذي كان في سِياقِ التّعَلُّمِ، في مجالِ الكِتابةِ السِّينمائِيّةِ، وهندسةِ الصُّورةِ بشكْلِهِ المُكثَّفِ جِدّاً، على بناءِ الصُّورةِ الشِّعريّةِ مِن ناحيةٍ، وساهَمَ في تخْليصِ القصيدةِ منَ الاسْتِطراداتِ، وشوائِبِ المُفرداتِ التي لا ضَرورةَ لها، مِنْ ناحيةٍ ثانيةٍ.
وقدْ ظلَّ التّحدّيْ والطُّموحُ في الوُصولِ إلى البلاغةِ في اللّغةِ، وإِحكامِ القبْضةِ على الحالةِ الشُّعوريّةِ، والتّعامُلِ معَها بوَعْيٍ فنّيٍّ، وإِدارةٍ لُغَويّةٍ مُتماسِكةٍ؛ منَ الهَواجِسِ الدّائمةِ.. هذا التّحدّيْ سيَبقى على الدّوامِ حارِقاً، ومُقْلِقاً طالما أنّ التّجرِبةَ مُستمِرّةً..
الالتِباسُ فيما يخُصُّ البَصريَّ كان فقطْ في البِدايةِ، وارْتبطَ دائِماً بالجانِبِ النّظريِّ، وكان منَ السّهلِ عمَليّاً جرُّ خطٍّ واضِحٍ، أو وضْعُ نُقطةٍ تَفصِلُ بينَ هذا الشّكلِ الفنّيِّ وذاكْ .. ولَطالما تَنازعَتْنيْ في أُولى الأيّامِ الآمالُ الفنّيّةُ والأحلامُ، في المُساهَمةِ في صِناعةٍ بصَريّةٍ منَ المُمكِنِ أنْ تترُكَ بَصمةً ما ، أو أنْ تشفيَ الغليلَ وتُحقِّقَ الأمانيَ في جَوٍّ صِحّيٍّ.
صارتْ هُناكَ علاقةٌ شبيهةٌ بالارْتباطِ الرُّوحانيِّ، أو الصّوفيِّ معَ القصيدةِ، لم تتَحقّقْ بالدّرجةِ نفسِها في التّجْرِبةِ السّينمائيّةِ؛ بسبب الاخْتِلافِ الجَوهَريِّ في التّنفيذِ، والتّعقيداتِ التِّقَنِيّةِ التي تقِفُ حائلاً دونَ ترجمةِ المُتَخيَّلِ إلى عمليٍّ بتلك السُّهولةِ المُتحَقِّقةِ في الشّعرِ.. المسألةُ ليستْ بهذهِ المُعادَلةِ الرّياضيّةِ القاطِعةِ والمُنْجَزةِ معَ القصيدةِ، لكنّها بهذهِ الدّرجةِ منَ الوُضوحِ والمُباشَرةِ، وبهذهِ المنطِقيّةِ الحادّةِ في السّينَما..
إنَّ النّجاحَ المُتَحقِّقَ نِسْبيّاً معَ القصيدةِ، بقيَ دافعاً ومُحفِّزاً ومُحرِّضاً على الوُصولِ إلى شكْلٍ، تتحقّقُ فيه مُسْتوياتٌ ضَروريّةٌ وأساسيّةٌ منَ النُّضجِ الفنّيِّ على الصّعيدِ السّينمائيِّ . تعلّمْتُ فيما بعدُ أنَّ التّركيزَ على التّجرِبةِ الذّاتيّةِ وتطويرّها، هو بحَدِّ ذاتِهِ مُساهَمةٌ مسئولةٌ باتِّجاهِ الأهدافِ الكبرى والجادة وأنّ اللُّهاثَ مِن أجلِ الوُصولِ بالسِّينَمائيِّ إلى مُستوى الطُّموحِ، وفي حُدودٍ مِهَنيّةٍ مُتقدِّمةٍ هو مَشروعٌ ليس فرديّاً، وإنما هو مَسئوليّةُ مُؤَسّسةٍ، وأنّ الإصْرارَ على تَجاهُلِ هذهِ الحقيقةِ أو إنكارَها هو نوعٌ منَ الانْتِحارِ والمُكابرَةِ الطُّفوليّةِ .. لا يمكِنُ بأيِّ شكلٍ منَ الأشْكالِ، منَ النّاحِيةِ العمليّةِ، أنْ يُشبهَ السّينمائيُّ الشِّعريَّ؛ لأنّ الإمكانيّاتِ المُحرِّكةَ غيرُ مُتكافِئةٍ، وبالتّاليْ فهناكَ عدَمُ عدالةٍ؛ ليس فقطْ في الحُكْمِ على التّجرِبةِ، وإنما أيضاً في كلِّ ما هو مُتعلِّقٌ بالتّفاصيلِ الإنْتاجيّةِ.. أنت إذنْ مضْطرٌّ لتقْديمِ التّنازُلاتِ على الكثيرِ منَ الأصْعِدةِ في السّينما؛ وفي الإبْداعِ يجبُ أنْ لا تُقدِّمَ أيّةَ تَنازُلاتٍ..
لكيْ تبنيَ الصّورةَ الشِّعريّةَ أنت لا تحتاجُ سِوى لقلمِكَ وورقتِكَ، أو لكُومبيوتَرِكَ؛ ولكنْ لبناءِ صورةٍ سينمائيّةٍ قد يكلّفُكَ الأمرُ كرامتَكَ ..
عندما تجِدُ نفسَكَ مضْطرّاً لرَجاءِ الآخرينَ لكي تُبدِعَ؛ فإنّ هذا أسوأُ أمرٍ يمكِنُ أنْ يحدُثَ لك في حياتِكَ.. هل تقبلُ أم تُساوِمُ أم تنسحِبُ؟
الإجابةُ بيدِكَ وهي قاسِيةٌ..
على أيِّ حالٍ؛ فلَقدْ ظلّتِ الكِتابةُ بالنِّسبةِ إليَّ شأناً تِلْقائيّاً ، يحدُثُ بصُورةٍ عفْويّةٍ خالصةٍ، وأستطيعُ أنْ أقولَ: إنّ تَراكُمَ التّجرِبةِ جعلَ التّحكُّمَ في الحالَةِ بالِغاً .. السّينما ليستْ كذلكَ على الإِطْلاقِ، لقد باتَتْ تُفْسِدُ عليَّ أحلاميْ، وخُصوصيّةَ ذِكْرياتيْ معَ الأشياءِ، وطريقةَ إِحْساسيْ بها، ولكنّني أظَلُّ أشتاقُ لها، وأحلُمُ بها مِن جديدٍ، ومِن جديدْ.. وحينَ أشعُرُ بالوَحْدةِ الشّديدةِ التي تُسبِّبُها عُزْلةُ الكِتابةِ؛ فإنّ الخُروجَ للعملِ معَ الآخرينَ، هو فُسْحةٌ ثمينةٌ للشُّعورِ بالحياةِ، وإِنجازِ شيءٍ مُشتَركٍ معَ الآخَرِ.. ولكنّ الإحْساسَ الخَفِيَّ بوجودِ شريطٍ حولَ كاحِليْكَ ،يمنعُكَ مِنْ أخْذِ خُطوةٍ أطولَ للأمامِ؛ هو إِحساسٌ محبِطٌ، وغيرُ لائقٍ بالفنِّ.
في المقابِلِ، وعلى صعيدِ القصيدةِ؛ فمُنذُ بدايةِ اكْتشافي لسِحْرِ الكِتابةِ، وإصراريْ على أنْ أكونَ كاتبةً، كانتْ هناكَ زوايا ومَفاصلُ في التّجرِبةِ على امْتِدادِها، والتي يصِلُ عُمُرُها الآنَ إلى ما يزيدُ على ثلاثينَ عاماً.. رُبما كانتْ هناكَ أوهامٌ شخصيّةٌ، وتعثُّراتٌ في العلاقاتِ، وتحدِّياتٌ في الشكْلِ الفنّيِّ، الذي كانَ المرءُ يُريدُ أن يكونَ هو مجالَ إبداعِهِ.. كانتْ هناكَ حروبٌ تافِهةٌ تمّ بسببِها تصنيفُنا ( أرجو أنْ لا تكونَ ظِلالُها مُستمرّةً حتى هذا اليومِ) لكنْ على الرَّغْمِ مِن كلِّ ذلكَ؛ كانتِ الكِتابةُ هي المتّكأَ الذي لم يكُنْ له ليدخُلَ في لُعْبةِ المُساوَماتِ.. وكان يشتدُّ الهُجومُ علينا مِن زُملائِنا، وتشتدُّ رغبتُنا في الإنتاجِ والتّعلُّمِ، والتعبيرِ عنْ حقِّنا في اخْتيارِ طريقةِ الكِتابةِ، وشكْلِ قصيدتِنا .. أظُنُّ أنّ وجودَ مُلحَقٍ ثقافيٍّ مِثلَ "مُلحقِ الخليجِ الثّقافيِّ"، على رأسِهِ رجلٌ فاضلٌ مثلُ الدّكتورْ "يوسُف عيدابي" في ذلكَ الحينِ، لعبَ دوراً كبيراً في ترسيخِ أقدامِنا على أرضيّةٍ صُلْبةٍ، ومُساعدَتِنا في الشُّعورِ بالطُّمأنينةِ .. كان هذا أحدَ أهمِّ نُقاطِ الدّعْمِ التي قـُدِّمَتْ لجيلِنا في ذلكَ الوقْتِ، وقٌدِّمتْ لقصيدةِ النّثرِ الجديدةِ.. شُكراً له على ذلك..
كانتْ مجلّةُ "كلمات" الفصليّةُ، التي ظلَّ يُشرفُ عليها الشّاعرُ البحرينيُّ قاسمْ حدّاد، رافداً آخرَ، ونافذةً سرَّبْنا مِن خِلالِها نصوصَنا، واستقبلْنا نُصوصَ الآخرينَ مِن كافّةِ أرجاءِ الوطنِ العربيِّ، وشعَرْنا أننّا كنُا دائماً في المركزِ؛ رَغْمَ كلِّ الدّعاوَى التي كانتْ تسْتلِّذُّ باعْتبارِنا أبناءَ ثقافةِ الأطرافْ..
بالنّسبةِ إليَّ شخصيّاً؛ فقد كان نشرُ ديوانيَ الأوّلِ كاملاً في مجلةِ "مواقف" التي أسّسَها، وكان يرأَسُ تحريرَها الشّاعرُ الكبيرُ "أدونيس" محطّةً أُخرى في تجرِبتي شعرْتُ إِثرَها بأهميّةِ مَشروعيَ الإبْداعيِّ، وبالجَدوى الحقيقيّةِ للكِتابةِ، وبالمزيدِ منَ الثّقةِ بالنّفسِ .. شعرْتُ إثرَها بأنّ اخْتياريْ لقصيدةِ النّثرِ كشَكلٍ فنّيٍّ، كان قراراً صائباً ومناسباً، ووجدْتُ أنّني لسْتُ بحاجةٍ لأنْ أُثبتَ لأحدٍ أيَّ شيءٍ، وأنّني كنْتُ أنا بنفسيْ أضَعُ عراقيلَ أمامَ نفسي، لم يكنِ الآخَرونَ مسئولينَ عنها.. وكان كافياً لتَهدِئةِ قلقيْ أنْ أشعُرَ بالرّاحةِ والانسجامِ، وأنا أكتُبُ قصيدتيْ، وأشتغِلُ على تطويرِها ورِعايتِها .. في هذهِ المرْحلةِ بالذّاتِ كنْتُ قد بدأْتُ أعمَلُ على تعويضِ غِيابِ الوزْنِ، بالتّركيزِ على مُتَّكآتٍ أُخرى في القصيدةِ، وهي اللّغةُ والدِلالاتُ والوَحدةُ والصُّورةُ..
الصورةُ التي أصبحَتْ في وقتٍ لاحقٍ، مجالاً جديداً وضعَني أمامَ الفرحِ والخوفِ بنفسِ الدّرجةِ..

خُطُواتيْ ما زِلتُ أبحثُ لها عنْ موطِئ ٍ، أعرِفُ أنّني لم أُحقِّقْ سوى النزرِ اليسيرِ مِن أحلاميَ الحقيقيّةِ في المشروعِ الشعري والسّينمائيِّ.. أتمنّى فقط أنْ لا أُضْطرَّ للتّنازُلِ أبداً، وأعرِفُ أنّ السّماءَ تفتَحُ ذِراعَيها بمحبّةٍ لأحلاميْ.. وأعرِفُ أنّ هناكَ الكثيرَ منَ الأصدقاءِ الذينَ يُؤمنونَ بأنّنا قادرونَ على الحُلُمِ بشكلٍ مختَلِفٍ.

*هامش: نسبة إلى كلمة " يوغا"