الثلاثاء، 10 مارس 2020

المطر یغسل العالم والموسیقى كذلك






أیتھا الأم 
نحن أبناؤك 
استمعي إلى دعائنا 
استمعي إلى أصواتنا 
لقد جئنا إلى ھذا العالم من رحمك 
ولكي نحیا فیھ بانسجام 
لكنني لا أعرف 
لماذا نتحارب 
ولماذا نعمل على تدمیرك ِ.

" من أسطوانة "المستقبل العتیق" ***

Inti César MalásquezPhilip Martin ‎– The Ancient Future


على غیر العادة كان شارع الكورنیش وخاصة في الجزء المؤدي إلى فندق "قصر الإمارات" بالعاصمة أبوظبي مساء الثالث والعشرین من ابریل الماضي یضیق باختناق مروري لم یكن مفھوما. ولكن مشھد أولئك الذین كانوا ما زالوا على الشارع الرئیسي ومع ذلك تركوا سیاراتھم للسائقین كي یتولوا أمر إیجاد مواقف ملائمة لھا وأخذوا یجرون على الأرصفة كانوا یتمیزون بشيء واحد مشترك بینھم وھو أنھم یركضون مسرعین باتجاه البوابة الرئیسیة للفندق نفسھ في محاولة للتسابق مع الزمن الذي كان یقترب سریعا من الثامنة. ھؤلاء كانوا أیضا یشتركون في شيء آخر وھو حملھم لبطاقات الدعوة الحمراء التي ستسمح لھم بحضور أمسیة نصیر شمھ ورفاقھ من عازفین جاءوا من أنحاء مختلفة من العالم للمشاركة في مھرجان أبوظبي للموسیقى الكلاسیكیة بعملھم الكبیر "أمنا الأرض" . كنت وصدیقتي أحد أولئك الذین كان علیھم تكبد الكثیر من المعاناة للوصول إلى القاعة الرئیسیة للحفل. لم نجر على أرصفة الكورنیش طبعا ولكن كان علینا إیجاد موقف والسیر طویلا طویلا بین ساحات ومواقف الفندق الفاخر الخارجیة ودھالیزه الداخلیة وعندما اقتربنا من بوابة المسرح أخبرنا المنظمون بعدم إمكانیة الدخول لإمتلاء المسرح على آخره وھكذا أصبحنا ممن حالفھم الحظ لمشاھدة الأمسیة في قاعة جانبیة أعدت لمتابعة الحدث ولكن على شاشة عرض بصریة. وعلى الرغم من أنني سبق وأن سمعت شمھ یعزف على المسرح من قبل إلا أن ھذه الأمسیة بالذات كانت تتمیز بروح أخرى لأنھا حملت بصمة أرواح كثیرة اخترقت آلات العزف المنتمیة إلى تواریخ انسانیتھا وثقافاتھا وصانعیھا وإلى حساسیة الأیدي والأفواه والأرجل التي كانت تعزفھا. من خلال خمسة عشر عازف وعازفة من أكثر من بلد من العالم وأكثر من خمس عشرة آلة موسیقیة كانت موسیقى نصیر شمھ تتخذ لنفسھا ھیئة كونیة وصوتاً عابرا للقارات.. تحدثت التجربة بلغة شفیفة عن الحب والفرح وتآمرات الطبیعة العذبة بكل ما فیھا من كائنات تستأثر بحوار السلام والمحبة والأخوه الكونیة. وكانت أیضا تحمل الصرخات والصلوات والقصائد وتترك تلك الزخة المریرة التي تعاتب الموت والدمار والعنف والخذلان. ومثلما كانت روح نصیر شمھ الموسیقیھ حاضرة كتألیف وعزف كانت على الطرف الآخر طاقة عالیة تنبعث من حساسیة كل عازف مشارك جاء یحمل میراثھ الموسیقي وطریقتھ والصوت أو الایقاع الخاص لآلتھ وكان یعبر عنھ في عزف منفرد یجعل الأنظار تتعلق بشغف بایماءاتھ وھو یتجاوب مع آلتھ بینما الآذان والأرواح تدوخ وھي تحاول التقاط السحر الكامن في كل ھذا . وللذي تابع الحفل كان یمكن أن یلاحظ أن نصیر عزف قلیلا وترك الآخرین یتجلون في نسیج منسجم ومتوازن. تركھم یستلذون بعزف المقامات العربیة والشرقیة التقلیدیة ویحلقون في فضاءاتھا بمحبة واستلطاف واضحین .. وترك الجمھور یقف على نسق آخر یشكل في حد ذاتھ تجربة فریدة لھ كمستمع محاید. أن تسمع مقطوعة "فوق النخل" الشعبیة تعزف بالغیتار أو بآلة لیرا الیونانیة أو بآلة السیتار الھندیة لھو أمر على كل متذوق للموسیقى أن یجربھ حتى یدرك كما ھي ممتعة ومنعشة وكم ھي تشبھ بالضبط الخروج إلى الھواء الطلق أو القفز فوق غیمة. أما نصیر شمھ فقد جعلھ متاحا ومؤثرا في آن من الناحیة الثقافیة والإنسانیة المحضة. 


***
ُ
ربما العالم أجمع بحاجة إلى تجارب مماثلة وربما یكون عزاؤنا ھو أن لدینا مبدعین لدیھم روح المبادرة لفتح أذرعھم للعالم حتى حین یخونھم ھذا العالم بقسوة. أعتدت أن أقول شكرا حین تمسني أیة تجربة تستحق الإحساس بالإمتنان ولھذا أرید أن أترك ھذه الكلمة في مكان لھ قیمة كبیرة بالنسبة لي.. من ھذه الزاویة التي أحبھا كثیرا أقول شكرا لك یا نصیر شمھ على أنك جعلتنا نعود إلى بیوتنا في تلك اللیلة كمن یطیر فوق مجرة.. شكرا لك لأنك جعلت عناء الوصول إلى تلك الأمسیة أمر یمكن احتمالھ وتقبلھ بحب..